تفكر ساعة……
خلقكم من تراب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد…
بعد أن جاب العلماء في أرجاء الأرض وأعماق البحار ومجاهل الفضاء الواسعة أدركوا بأن اعظم ظاهرة من ظواهر هذا الوجود المشهود هي ظاهرة الحياة، فهي سر عجز العلماء عن تفسيره، وهي تحد علمي لكل ذي فكر وقدرة صناعية وحيلة كيمائية وفيزيائية، وهذا التحدي موجه للإنس والجن متفرقين ومجتمعين.
وبذل كبار العلماء عشرات السنين في الدراسة والبحث وتم صرف الألوف المؤلفة من الأموال وتضافرت الجهود العلمية لمختلف البلدان والمعاهد البحثية العلمية لعلهم يظفرون بتحول التراب الميت الذي لا حياة فيه إلى مادة حية فعجزوا عن ذلك وقرروا أن الحياة لا تكون إلا وليدة حياة قبلها وإنها لا يمكن أن تشتق بنفسها من المادة الميتة، ونجد أن الله سبحانه وتعالى يشير قبل ألف وأربعمائة سنة إلى هذه الظاهرة المدهشة والى هذه المعجزة البينة والآية العظيمة فيقول في محكم كتابه الكريم…
بسم الله الرحمن الرحيم
((يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون. ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا انتم بشر تنتشرون.)) (الروم: 19-20).
آية عظيمة من آيات القدرة، فالتراب ميت ساكن وجامد ومنه نشأ الكائن الحي المتحرك، والنقلة الضخمة من صورة التراب الساكن الزهيد إلى صورة الإنسان المتحرك الجليل القدر نقلة تثير التأمل في صنع الله وتستجيش الضمير للحمد والتسبيح لله وتحرك القلب لتمجيد الصانع المتفضل الكريم.
والمعجزة الخارقة الأخرى العظيمة والتي برزت بوضوح ونظر إليها الناس في هذا العصر هي أن العلم الإنساني التحليلي الحديث قد انتهى إلى أن عناصر جسم الإنسان الأساسية والتي تكون جميع أعضاءه وخلاياه هي العناصر التي يتألف منها التراب ولكن ضمن نسب خاصة.
وهكذا وبهذه المعجزات الباهرات والآيات البينات أدرك عقلاء العلماء أن الحياة من آيات الله الكبرى في الخلق فآمنوا به وخضعوا وخشعوا بين يديه.
والآن لنتفكر بعمق ولننظر نظرة واسعة في هذه الآية البينة:
فهذا الخلق العظيم "الإنسان" المفعم بالحيوية والنشاط والذي تتمثل فيه كل مظاهر الحياة العجيبة من حركة وتنفس وسعي وتكاثر وما يمتلك من أفكار ومشاعر فإننا نندهش ونعجب من آيات الحياة في هذا المخلوق.
ويأتي العلماء ليقولوا لنا إن هذا الجسم مكون من أعضاء مختلفة متساندة فيما بينها ومتعاونة ومتناسقة وكل عضو من هذه الأعضاء تتجلى فيه أيضاً آيات الحياة فهو حي ويعمل بكد ونشاط لتأدية وظيفته التي هداه الله سبحانه وتعالى إليها.
ثم يزيدنا العلماء والأطباء إعجاباً ودهشة في هذا الخلق عندما يقولوا لنا إن هذه الأعضاء الحية في جسم الإنسان مكونة من خلايا متراصة ومتساندة ومختلفة حسب الوظيفة التي تؤديها والشيء العجيب والمعجز أن هذه الخلايا هي حية أيضاً بل ومفعمة بالحياة والنشاط فهي تأكل وتتنفس وتنمو وتتكاثر وتتحرك وتتلاءم مع بيئتها وتؤدي جميع الفعاليات الحيوية بل وتموت وتخلق عوضاً عنها خلايا جديدة حية أخرى في نفس العضو!!! شيء عجيب حقاً، جسمك أيها الإنسان يحتوي على مائة ترليون خلية حية، أي مائة مليون مليون خلية حية، كل خلية فيها كائن حي مستقل يؤدي جميع الوظائف والنشاطات الحية التي يؤديها أي كائن حي مستقل، فتذكر أيها الإنسان هذه الآية العظيمة التي تتجلى في جسمك بعدد خلاياك، أي مائة ترليون مرة.
بل اعجب من هذا هو أن أجزاء الخلية الواحدة هي حية أيضاً فالخلية الحية أيضاً مكونة من نواة حية ومن سائل حي يحيط بالنواة ومن غشاء حي يحيط بالسائل وداخل الغشاء وفي السائل والنواة عشرات بل مئات وآلاف المركبات والأجهزة الحية، حتى إن بعض العلماء حاولوا صنع هذا السائل الخلوي الحي وصرفوا الأموال الطائلة لهذه التجارب وتضافرت الجهود واستمرت سنين كثيرة وأخيراً توقفوا عن أجراء مثل هذه التجارب وقالوا: إن الحياة لا يمكن أن تنشأ من التراب ومن المكونات الميتة، فالحياة لابد أن تنشأ من الحياة نفسها.
يقول العالم الروسي المشهور اوبريان رئيس معهد الكيمياء الحيوية في روسيا وقد بحث في هذه المعجزة لمدة سبعة وعشرين عاماً: { أيمكن تحويل الأحجار والرمال إلى إنسان ولو بعد ملايين السنين؟ هذا مستحيل }.
كيف لا والعلماء عجزوا عن محاكاة صنع جزء من الخلية، السائل الحيوي في الخلية الحية، فكيف بالخلية الحية عينها وكيف بالأعضاء الحية وكيف بالإنسان ولو بعد ملايين السنين.
بل إن الاكتشافات العلمية الحديثة وصلت إلى ابعد من ذلك وبينت أن في نواة هذه الخلايا يوجد الحامض النووي والذي يحتوي على جميع الشفرات والصفات الوراثية للكائن الحي وكان اكتشاف هذا الحامض النووي من قبل العالمين واطسون وكريك طفرة علمية كبيرة في مجال علوم الحياة واهتم العلماء كثيراً بهذا الحامض والذي هو بانقسامه مع انقسام النواة والخلية ككل يؤدي إلى تكاثر الخلايا ونمو الأعضاء وتكونها بل إن الإنسان الكامل بكل خلاياه يخلق من خلية واحدة فقط وهي البيضة المخصبة.
فإذاً خلق الإنسان من البيضة المخصبة يحصل بسبب حياة هذا الحامض النووي وقابليته العجيبة على الانقسام والتكاثر.
فجاهد العلماء لدراسة وفهم تركيب هذا الحامض النووي العجيب الذي يحمل في طياته جميع الصفات الوراثية التي يتصف بها الإنسان، فتعرف العلماء على مكونات هذا الحامض واستطاع أحد العلماء من اصطناعه واخذ على ذلك جائزة نوبل.
لقد صنع هذا العالم حامضاً نووياً شبيهاً بل ومطابقاً للحامض النووي لبعض أنواع الجراثيم، فقد كانت تركيبة الحامضين واحدة ولكن وجد بينهما فرقاً كبيراً وعظيماً جداً، هذا الفرق هو أن الحامض المصنع ليس له القابلية على الانقسام والتكاثر بينما الحامض الرباني له قدرة عجيبة على الانقسام والتكاثر، أي إن الفرق بينهما كالفرق بين الميت والحي، وكالفرق بين التمثال العديم الروح وبين الجسم الحي الآهل بالروح، بسم الله الرحمن الرحيم: ((ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً.)) (الإسراء: 85).
هذه الآيات العظيمة الجليلة المتجلية بكثرة في خلق إنسان واحد نراها في خلق كل إنسان من سيدنا آدم إلى يوم القيامة بل إن هذه المعجزة هي مستمرة ودائبة ولا تكف ولا تني ولو للحظة واحدة ففي كل لحظة من لحظات الليل والنهار وفي كل مكان على سطح الأرض وفي أعماق البحار يتم هذا التحول العجيب وتحدث هذه المعجزة الخارقة. بسم الله الرحمن الرحيم: ((يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون. ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا انتم بشر تنتشرون.)) (الروم: 19-20). ففي كل لحظة يخرج حي من ميت ويخرج ميت من حي وفي كل لحظة يتحرك برعم ساكن من جوف حبة أو نواة فيفلقها ويخرج إلى وجه الحياة وفي كل لحظة تدب الحياة في جنين إنسان أو حيوان أو طائر صغير وفي كل لحظة يموت حي وترم جثته، إنها دورة دائبة عجيبة ورهيبة لمن تأملها بالحس الواعي والقلب البصير ويراها على هدى القرآن ونوره المستمد من نور الله. "وكذلك تخرجون" فلأمر عادي واقعي لا غرابة فيه وليس بدعاً مما يشهده الكون في كل لحظة وفي كل مكان.
وأخيراً فإن من أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى انه "الحي" قال تعالى في سورة البقرة، بسم الله الرحمن الرحيم: ((الله لا إله إلا هو الحي القيوم)) (البقرة: 205). أطلق لخيالك العنان وتذكر أن في جسمك مائة ترليون خلية حية مفعمة بالحياة والنشاط وتصور كل ما تنتجه الأيدي الحية من أعمال وما تنشئه العقول الحية من أفكار وما تهتز به الأفئدة الحية من مشاعر ومن مظاهر الحياة الأخرى الكثيرة، واجعل هذا التصور والخيال يضم أشتات ذلك في مشارق الأرض ومغاربها ويستجمع ما حدث في العصور الخالية وما يحدث اليوم وما سوف يحدث غداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. إن مظاهر هذه الحياة المفعمة بالإنتاج لا تعد شيئاً مذكوراً بالنسبة إلى الحياة الإلهية بل هي اثر ضئيل من تجليات الحي الذي لا يموت، الحي الذي ينفخ من روحه في الموات فيهتز وفي الجماد فيتحرك.
فعلى الإنسان أن يتدبر هذا الاسم فلا يحب سواه ولا يتعلق إلا به دون المخلوقات فهو الحي الذي لا يموت.
كتب أحدهم إلى آخر يقول له: لقد مات صديق عزيز علي كثيراً، فمن كثرة ما بكيت عليه ذهب بصري فهلا عزيتني.
فرد عليه يقول: الذنب لك حيث أحببت وتعلقت بالحي الذي يموت، هلا أحببت الحي الذي لا يموت حتى لم تحتج إلى البكاء عليه!!!
بسم الله الرحمن الرحيم
((وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً.)) (الفرقان: 58)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
منقول
من مواضيع د.عماد عطا البياتي
اخصائي الامراض الانتقالية
العراق-بغداد